فصل: بصيرة في ذكر إدريس عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقالك جاءنى جِبْريلُ وقال: «يا مُحَمّد إِنَّ الله تعالَى أَلْبَس يُوسُفَ الجَمالَ من نورِ الكرْسىِّ وأَلْبَسَكَ جَمالَك من نور الْعَرْش».
ولَمَّا قرأَ صلَّى الله عليه وسلَّم قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبّ إِلَىَّ ممّا يَدْعُونَنى إِلَيْه} قال: «رَحم الله أَخى يُوسُفَ هَلاّ سَأَل الله العَفْوَ والعافيَة»، ولمّا قرأَ قوله: {فَاسْأَلْهُ ما بالُ النِّسْوَة اللاّتى} قال: «رحم الله يُوسُفَ لَوْ كنْتُ أَنَا لبادَرْت البابَ».
قال:
إِذا ما أَتاكَ الدَّهْرُ يَوْمًا بنَكْبَةٍ ** وأَصْبَحْتَ منها في حُزون من الحُزْنِ

فلا تَيْأَسَنْ فالله مَلَّك يُوسُفًا ** خَزائنَه بعد الخَلالص من السِّجْن

فرّقت قصص الأَنبياء في القرآن، وجَمَعَ قصّتَه جميعها في سورة واحدة، وسمّاه في هذه السّورة بثلاثةٍ وثلاثين اسْمًا: المُجْتَبَى: {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}، والمُعَلَّم: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، غلامٌ: {يابُشْرَى هذا غُلاَمٌ}، مُكرَمٌ: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}، نافعٌ: {عَسَى أَن يَنفَعَنَا}، وَلَد: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، مُخْلَصٌ: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}، مُحْسِنٌ: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، راءٍ: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}، فَتًى: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ}، أَحَبّ: {وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}، مَلَكٌ كَرِيمٌ: {إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، مُسْتَعْصِمٌ: {فَاسَتَعْصَمَ}، صِدِّيقٌ: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}، مُسْتَخْلَص {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}، حَفيظٌ وعَليمٌ: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، أَمينٌ ومَكِينٌ: {لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}، مُمَكَّنٌ: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}، مُرْسَلٌ: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا}، رَسُولٌ: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ}، إِلى قوله: {رَسُولًا}، أَخٌ: {إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ}، زَعِيمٌ: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}، عَلِيمٌ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، رَفِيعٌ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ}، رافِعٌ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}، عَزِيزٌ: {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}، مُتَصَدِّقٌ: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}، تَقِىٌّ وصابِرٌ: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ}، صالِحٌ ومُسْلِمٌ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
وذكره تعالى باسْمِه في خمسةٍ وعشرين موضعًا من التَّنْزِيل:
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ}، {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ}، {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا}، {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ}، {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ}، {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا}، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ}، {كُلًا هَدَيْنَا وَنُوحًا}، إِلى قوله: {وَيُوسُفَ}، {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا}، {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}، {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}، {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}، {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ}، {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ}، {كَذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ}، {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا}، {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ}، {يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}، {تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ}، {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ}، {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}، {قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ}، {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}.
مَحَنَهُ الله تعالى بعَشْرِ مِحَنٍ، وكافأَه بعَشْرِ مِنَحٍ: الأَوَّل بِفراقِ أَبِيهِ، وختم بمَسَّرةِ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}، وابْتُلِىَ بجَفاءٍ الإِخْوة وخَتم بمَسَرَّةِ: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا}، وابْتُلِىَ بوَحْشَةِ الجُبِّ، وجُوزِىَ بفَرْحَة: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا}، وابْتُلِىَ بمَلكَة عَزِيزِ مِصْرَ وكُوفئ بمَلِكَة أَهْلِ مِصْرَ قاطِبَة: {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}، وابتُلِىَ بقَصْدِ زليخا، ونجا بشهادة طِفْلٍ لم يَنْطق بعدُ: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}، وابْتُلِىَ بِحيلَة نِساءِ مِصْرَ، وخُتِمَ ببراءتِه وقَوْلهنّ: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}، وابْتُلِىَ بدَعْوة الشَّيْطان، وصِينَ بِعصْمَة الرّحْمان: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}، وابْتُلِىَ بالسّجن والحَبْسِ، وكُوفئ بالمُلْكِ والسَّلْطَنَة: {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}، وابْتُلِىَ بالزُّورِ والبُهْتان وصار ذلك أَظْهَر من كلّ عَيانٍ: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}، وابْتُلِىَ بالمالِ والمُلْكِ واتِّساع الدّنيا، وأُبْعِد عنه ضَرُّها بولاية المَوْلَى في الآخِرَة والأُولَى: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ}.
قال:
كَمْ نِعْمَةٍ مَسْتُورَة في الظَّلام ** كَمْ نِعْمَةٍ مغمورَة في الكَلامْ

آدَمُ في الجَنَّة نالَ النَّوَى ** ونالَ في الطُّوفان نُوحٌ سَلامْ

يَعْقُوبُ قد عُوقِبَ في هَجْره ** بَيْتَ أَحزان رَهِين اغْتام

ثم ابنه قد صُرّ من بئره ** فقيل يا بُشْرَى هذا غلام

.بصيرة في ذكر إدريس عليه السلام:

واسمه بالسّريانية خنوخ ويُقال أَخْنوخ، ومعناه كثير العِبادة- وأَمّا إِدريس فاسمٌ أَعجمىٌّ غير مُنْصَرِف.
وقيل: مشتق من الدّرْس والدّراسة بمعنى القِراءة، سمّى به لكثرة ما دَرَس من كُتب الله عزَّ وجلّ، فإِنَّه كان يحفظ صُحُفَ آدم وصُحُفَ شِيثٍ على ظَهْرِ قَلْبه، وكانت صحفُ آدَمَ واحدًا وخمسين صحيفةً، وصحفُ شيثٍ عِشْرِينَ، وصحفهُ خاصّة ثلاثين، وكان يفحظ الجميع ويُدَرِّسه.
قال النبي صلَّى الله عليه وسلم: «ما اجْتَمَع قَوْمٌ في مَسْجِدٍ من مَساجِدِ اللهِ يَتْلُون كتابَ اللهِ ويَتدارَسُونَه إِلاَّ نَزَلَتْ عليهم السَّكِينَة وغَشِيَتْهُم الرَّحْمَة، وذَكَرَهُم الله فِيمَن عِنْدَه».
قال:
العِلْمُ أَنْفَسُ عِلْقٍ أَنْتَ ذاخِرُهُ ** مَنْ يَدْرُس العِلْم لم تَدْرُس مَفاخِرُهُ

فاجْهَدْ لِتَعْلَمَ ما أَصْبَحْتَ تَجْهَلُه ** فأَوَّلُ العِلْمِ إِقْبالٌ وآخِرُهُ

وكان إِدْرِيسُ أَوَّلَ من خَطَّ، وأَوّلَ من خاطَ، وأَوّلَ من أَخَبْرَ عن عِلْم الهَيْئَة والحِساب وأَحْكام النُّجُوم وتأْثِير الكواكب بالتَّأْييد السَّماوىّ والمدد الرّبّانىّ، رفع الله عنه بدُعائه إِحساسَ حَرارَة الشمْسِ، وعَبَدَ الله حتَّى تمنَّت الملائكةُ المقَرَّبون صُحْبته.
ودعاه الله في التَّنْزيل باثْنَىْ عَشَر اسْما: السَّاجِدُ، والباكِى {خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا} مُجْتَبًى ومَهْدِىٌّ {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا}، رفَيعُ الشَّأْن عَلِىُّ المَكان {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}.
صالحُ {وَكُلًا جَعَلْنَا صَالِحِينَ}، صابِرٌ {كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ}، صِدِّيقٌ ونَبىٌّ {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}، مَذْكُور وإِدْرِيسُ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}.
وذكره باسمه في موضعين:
{وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ}، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ}.
أَنْشَدنا بعضهم:
اصْدُق ولا تأْتِ قَطُّ تَلْبِيسا ** ولا يَرَى اللهُ مِنْكَ تَدْلِيسا

إِدْرِيس في عِلءمِه وحِكمَته ** بالأَنْجُمِ الزُّهْرِ كان نِقْرِيسَا

مَكانُه عزَّ مِنْ مَكانَتهِ ** أَنْزَلَه صِدْقُه الفَرادِيسا

وآيةُ إِجْلالِه وعِزَّتهِ ** في واذْكُرْ في الكتابِ إِدْرِيسَا

.بصيرة في ذكر يونس عليه السلام:

وفيه ثلاثُ لُغاتٍ: ضَمُّ نُونِه وفَتْحهُ وكَسْرُه، وهو اسمُ علمٍ أَعجمىّ ممتنع من الصَّرْف، وقيل: مُشْتَقٌ وَزْنُه يُفْعِل من آنَس يُؤْنِسُ إِيناسًا بمعنى أَبْصَر، قال الله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}، وقيلَ من الأُنْسِ ضدّ الوَحْشة، سُمِّىَ بِه لأُنْسِهِ بطاعةِ الله، أَو لأَنَّه أَبصر رُشْدَه في العبادة.
قيل: أَوْحَى الله تعالى إِلى يُوْنُسَ أَنْ قُلْ لأُمَّتِكَ قولُوا لا إِله إِلاَّ الله ثم اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.
وقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا تُفَضِّلُونى على يُونُسَ بنِ مَتّى» وقال: «مَنْ قال أَنا خَيْرٌ من يُونُسَ بنِ مَتّى فَقَدْ كَذَب».
ودعاه الله تعالَى في القُرْآن بأَحَدَ عشر لَقبًا: ذوُ النُّونِ ومُغاضِبٌ فقال: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا}، ومُنادِى الحَقّ {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}، ومُسْتَجابُ الدَّعْوة {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} والمُنَجَّى {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ}، والمُرْسَل {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} والآبِقُ إِلى الحَقِّ {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}، والمُدْحَضُ {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}، مُلِيمٌ {وَهُوَ مُلِيمٌ}، مُسَبِّحٌ {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ}، صاحِبُ الحُوت {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، مَكْظُومٌ {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}، مُجْتَبَى وصالِح {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وذكره الله تعالى باسمه في مواضع من التَّنْزيل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
{فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ}، {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}.
ويُرْوَى أَنَّه لَمَّا الْتَهمَهُ الحُوتُ جعل يُسَبِّح الله تعالى في بَطْنِه فقالت ملائكة السَّماءِ يا رَبَّنا إِنَّا نَسْمَع صوتَ بعدِ معروفٍ من مكانٍ مَجْهولٍ، فقال الله تعالَى: ذاك صوتُ عَبْدِى يونُس قَنَّط عبادى من رَحْمَتِى فأَوْقَعْتُه في ظُلْمة البحر وبَطْن الحوت.
وكان يُونُس يَنُوحُ على نفسه في جَوْف الحوت ويقول: إِلهِى من الجِبال انْزَلْتَنِى، ومن بين العِباد أَخْرَجْتَنِى، وفى البحار صَيَّرْتَنِى، وفى بَطْنِ الحُوتِ حَبَسْتَنِى، وبشُؤْم الزَلَّةِ ابْتَلَيْتَنِى، فلو نَجَّيْتَنِى من سِجْنِك لأَعْبُدَنَّك عِبادَةً لم يَعْبُدْك أَحَدٌ من العالمين، {لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال:
آثَرَ اللهُ فارْضَ بالقُوتِ ** لا تَسَخَّطْ قَضاءَ مَوْقُوتِ

إنَّما الصَّبْرُ والرِّضَا عَقدا ** عِقْدَيْن من لُؤْلُؤٍ ويَاقُوتِ

أَخُور الرِّضا صائرٌ إِلى مِقَةٍ ** وصاحِبُ السُّخْط شَرُّ مَمْقُوتِ

قيلَ لصَدْر الأَنامِ ارْضَ ولا ** تكُنْ جَزُوعا كصاحِب الحُوتِ

.بصيرة في ذكر لوط عليه السلام:

وهو اسم أَعجمىّ مقال نُوح يجوز صرْفُه، وهو أَوّل من سُمّى بهذا الاسم، وهو لُوطُ ابن هارون بن تارَح ويقال تِيرَح، وهو ابن أَخى إِبراهيمَ الخليل عليه السّلام.
وقد ذكره الله في القرآن بعَشَرَة أَسماءِ: النَّاجِى {نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}، الشَّاكر {كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ}، نَذِيرٌ {فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ}، مُنْذِرٌ {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا} مُرْسَل {وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، الأَخُ {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ}، رَسُولٌ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، مُتَطَهِّر {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
ودعاه باسمه في عَشَرة مَواضِعَ من القرآن: {وَلُوطًا وَكُلًا فَضَّلْنَا}، {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}، {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}، {جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ}، {يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ}، {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ}.
خرج لوطٌ من أَرض عراق مع عمّه إِبراهيم تابِعًا له على دِينه مهاجِرًا إِلى الشَّام، ومعهما سارة امرأةُ إِبراهيم، وخرج معها آزَرُ أَبو إِبراهيم مخالِفًا لإِبْراهِيم في دينه، مُقِيما على كُفْره، حتَّى وصلوا حَرَّانَ، فمات آزرُ ومضى إِبراهيم ولُوطٌ وسارة إِلى الشَّام، ثمّ مَضَوْا إِلى مِصرَ ثمّ رجعوا إِلى الشَّام، فنزل إِبراهيم فلسطين، ونزل لوطٌ الأُرْدُنَّ، فأَرسله الله تعالى إِلى أَهْلِ سَدُومَ وما بينهما، وكانوا كُفَّارًا يَأْتونَ الفَواحِشَ، ومنها إِتْيانُ الذُكْرانِ ما سَبَقَهم بها من أَحَدٍ من العالَمِين، ويَتضارَطُون في مجالسهم، فلمّا طال تمادِيهم في غَيّهم ولم يَنْزَجِروا دعَا عليهم لُوطٌ وقال: {رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} فأَجاب الله دُعاءَه وبعث جبريلَ وميكائيلَ وإِسرافيل عليهم السّلام لإِهلاكهم وبِشارَة إِبْراهيم بالوَلَد، فأَقبلوا في صورة رِجالٍ مُرْدٍ حِسانٍ، فنزلوا على إِبراهيم ضيفانًا وبَشَّروه بإِسحاق ويعقوب.
ولمّا جاء آلَ لُوطٍ العذاب في السَّحر اقتلع جبريلُ قَرَياتِ لُوطٍ الأَربع، في كلّ قرية مائة أَلف، ورفعهنَّ على جَناحه بين السَّماءِ والأَرض حتى سمع أَهلُ الدّنيا نُباحَ كِلابِهم وصِياحَ دِيَكَتِهِنَ ثمّ قَلَبَهُنَّ فجعل عالِيَها سافِلَها وذلك قوله تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ}.
وهلكت امرأَة لوط مع الهالِكين.
قال أَبو بكر بن عَيّاش: استَغْنَتْ رِجالُهم بِرجالهم، ونِساؤهم بِنسائهم، فكان عليهم من العذاب ما كان.
قال بعضهم:
طَهِّرْ فُؤادكَ واحْتَضِنْه مَحُوطَا ** لا تَمْنَحَنْه قَساوَةً وقُنوطَا

إِنَّ الَّذِين اسْتَبْدَلوا مِنء طَيِّب ** خُبْثًا رَأَوْا في إِثْر ذاكَ حُبُوطَا

بحِجارة مَنْظُودَة مَوْسُومَة ** اللهُ أَمْطَرَها فشَدَّ سُقُوطَا

جُعِلَتْ أَعالى دراهمْ كأَسافِلٍ ** وأَبادَ خَضْراهُم ونَجَّى لُوطَا

.بصيرة في ذكر شعيب عليه السلام:

وهو شُعَيْبُ بن يَصْهُر، قال عطاءٌ وغيره: هو شُعيْبُ بن ميكيل بن يَشْجُر بن مدْين ابن إِبْراهِيم الخليل.
وكان يُقال لشُعيْبٍ خَطِيب الأَنْبياء، وكان رسولًا إِلى أَهل مَدْين أَصحاب الأَيْكَة، وكان كثير الصّلاة والعِبادة، وكان عذاب قَوْمه بالنَّار، وكان عصى مُوسى تَذْكِرةً منه إِلَيْه.
وقد ذكره الله تعالى في مواضع من التَّنْزيل، ودعاه بأَربعة عشَر اسْما: مُرْسَلٌ {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}، أَخٌ {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}، رسُولٌ: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}، أَبٌ وشَيخٌ كبيرٌ {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، صادِقٌ {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، صالِحٌ {إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، خائفٌ {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ}، حلِيمٌ ورشِيدٌ: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، مُتَوَكِّل ومُنِيبٌ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
وذكره باسمه في مواضع: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}؛ {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ} {الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ}، {ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ}، {ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ}، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا}.
ولم يكن في الأَنبياء بعد نبيّنا محمّد صلَّى الله عليه وسلم أَفصح ولا أَبْلَغَ من شعيب.
قرأَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قِصَّته في سورة وما كان مِنْه ومن قومه وتأَمّل في أَلفاظ تَذْكِيرِه لِقَوْمه فقال: «رحِم الله أَخِى شعيْبًا، ذاك خَطِيب الأَنْبياء، كان يُحْسِن مراجعة قَوْمه».
قال بعضهم:
أَصاحِ انَّ الفَصاحةَ خَيْر خِلِّ ** تُكُلِّفَ حَوْلَها سَيْفٌ وسَيْبُ

فما في مُبْتَداهُ عُمْرُ وَعْىٍ ** وما في المنْتَهَى شَكٌّ ورَيْبُ

حديثٌ جاءنا حسنٌ صحِيحٌ ** رَواه عن الرَّسولِ لنا خُبَيْبُ

فقال لقَوْلِه لمَّا تَلاهُ ** خَطِيبُ الأَنْبياء أَخِى شُعَيْبُ

.بصيرة في ذكر أيوب عليه السلام:

وأَيّوبُ اسمٌ أَعجمىّ غير منصرف كسائر نظائره، وقيل: عربىٌّ معناه الرّجاع إِلى الحقِّ في جميع أَحواله من المِحْنَة والبلاء، والمِنْحة والرَّخاء، مِنْ آبَ يَؤُوبُ أَوْبًا وإِيابًا، فهو آيِبٌ وأَوَّابٌ.
وقيل: هو في اللَّغة العبرية معناه أَيضا الرَّجَّاع إِلى الله في كُلِّ حال.
وروينا في الصّحيحين عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «بيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِل عُرْيانًا خَرَّ عليه رِجْلُ جَرادٍ من ذَهبٍ، فجعل يَحْثِى في ثَوْبه، فناداه ربُّه: يا أَيّوبُ أَلَمْ أَكنْ أَغْنَيْتك عمّا تَرى؟ قال بلَى يا ربِّ ولكن لا غِنَى لِى عن بركَتك»: ويُرْوى أَنَّ أَيّوب ناجَى ربَّه وقال: إِلاهى ما رأَيتَ عُرْيانًا إِلاَّ أَلْبَسْتَه، ولا جائعًا إِلا أَشْبعْتَه، فَلِمَ ابْتَلَيْتَنى؟ فنُودِىَ صدقْتَ، ولكنَّك لو أَصْبحْتَ أسيرًا في يدِ عبْدٍ من عبيدى يُحكِّم فيك ما يُرِيد لأَصْبحْتَ في بلاءٍ أَشَدَّ مِنْ هذا، ولكنَّك أَصبحت في يدِى وأَنا أَرحمُ الرّاحمين.
وقيل: لمّا اشتدّ البلاءُ بأَيّوب قِيل له لَوْ دعوْتَ الله حتَّى يَشْفِيك! فقال: قد أَتَى علَىّ في الرّخاء سبعون، لأَصْبِرنَّ إِلى أَنْ يأتِىَ علىّ في البلاء سبْعون، فإِن زاد البلاءُ على الرّخاء، فحينئذ أَدْعُو ربّى.
وقيل: لَمَّا قَدّم أَيّوبُ في البلاء جِسْمه قَدَّم الله في الثَّناءِ اسْمه، إِشارة إِلى أَنّ أَسماء جمِيع الأَنبياء في أَثناء قِصصِهم واسْمُ أَيُّوب في صدْرِ قِصّته.
وقد دعاه الله تعالى في القرآن بأسماء: صابِرٌ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ}، أَوّابٌ: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} مُنادى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ}، وهو أَوّلُ من دعا الله بأْرَحَمِ الرّاحِمِين.
وذكره الله تعالى باسمه في كتابه العزيز قال تعالى: {كُلًا هَدَيْنَا وَنُوحًا} إِلى قوله: {وَأَيُّوبَ}، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ}، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ}، ويُرْوَى أَنَّ الله تعالى أَوْحى إِلى أَيّوب بأَنَّ هذا البلاء قد اختاره سبعون نبيًّا قَبْلَك، فما اخترتُه إِلاَّ لك، فلمّا أَراد الله كَشْفَه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ} حتَّى زال عنه ما اختاره الله له.
قال بعضهم:
اسْتَصْحِبِ الصَّبْر يوْمًا ظَلُّ منْكوبا ** إِنْ كنتَ ذا قدْرةٍ أَو كنْت مغْلوبًا

الصَّبْرُ لِلْفَرج المَرْجُوِّ مُنْعَرَجٌ ** الصَّبْرُ صَبْرٌ أَمَرّ المُرِّ مَقْلوبَا

يَعْقوبُ في أَسَفٍ يَرْثِى لِصاحِبِه ** فالصَّبْر جاء بِه أَعْطاه يَعْقوبَا

أَيُّوب في صَبْرِه يَشْكو مَضَرَّتَهُ ** أَشْفَى عليه الشفا فانْتابَ أَيُّوبَا

وكان أَيّوبُ ببلاد حَوْران من الشَّام، وقبره في قرية بقرْب نَوَى، عليه مَشْهَدٌ ومَسْجِد وقريةٌ موقوفةٌ على مصالحه، وعينٌ جارية فيها قَدَمٌ في حَجَرِ يقولون إِنَّه أَثَرُ قَدَمه، والناس يغتسلون من العَيْن ويشربون متبرّكين، ويقولن إِنَّها المذكورة في القرآن، وهناك صخرة عليها مَشْهَدٌ يقولون إِنَّه كان يستند إِليها.